لم يكد يمر شهر على اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية الوحشية ضد قطاع غزة في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر الجريء الذي نفذته المقاومة في غزة ضد مواقع العدو ومستوطناته التي تحاصر القطاع، ومع بدء توارد الجرحى الفلسطينيين عبر معبر رفح إلى مستشفى العريش في شمال سيناء، حتى كان العشرات من الأطباء المصريين هناك للقيام بواجبهم تجاه إخوانهم المصابين، وكان في القلب منهم واحد من أعلام جراحة العظام والطب في مصر، هو الأستاذ الدكتور أحمد عبد العزيز، أستاذ جراحة العظام في كلية الطب جامعة القاهرة، والذي يفد المرضى إليه من كل حدبٍ وصوب في مصر، وتطول قائمة الانتظار في عيادته لأسابيع طويلة.
خلال فترة قصيرة، أجرى دكتور أحمد عبد العزيز وفريقه الطبي أكثر من عشرين جراحة عظام معقدة أكثرها لأطفال مصابين من غزة، وقد عبر الطبيب البارع عن صدمته من شدة الإصابات والتي تدل على مدى وحشية العدو النازي، ولكن لن تكون تلك هي آخر الصدمات التي سيشعر بها الرجل النبيل، ولا هذا هو سقف ما سيجود به، فبعد أشهر قليلة استعرت فيها تلك الحرب، ودمر العدو خلالَها عامداً معظم مشافي قطاع غزة، سيدخلُ الرجل ذو الخمسة والسبعين عاماً إلى غزة ضمن وفدٍ طبي عالمي يصل لأول مرة منذ بدء الحرب إلى أشد مناطق القطاع دماراً في شمال قطاع غزة، ليساعد تحت القصف في علاج العشرات من المصابين، ويعرض نفسه لخطر أن يستهدفه عدو غاشم لم يتورع قبل أشهر عن اغتيال نشطاء المطبخ المركزي العالمي من الأجانب الذين كانوا يساهمون في محاربة المجاعة في غزة.
رغم خصوصية د. أحمد عبد العزيز في التميز الطبي وجهوده في العمل التطوعي، فإنه لم يكن استثناء بين أطباء مصر، فقد كانت العقود الأخيرة شاهدة على العديد من مواقف التضحية والبذل كان أبطالُها هم الأطباء المصريين في فتراتٍ فاصلة في تاريخ الأمة.
كانت معركة السويس (24-27 أكتوبر 1973) من أبرز الوقائع ذات الرمزية في أحداث حرب أكتوبر المجيدة عام 1973، والتي مُنع فيها المئات من ضباط وجنود الجيش المصري ومعهم متطوعو المقاومة الشعبية، العدوَّ الإسرائيلي من احتلال مدينة السويس، بعد هجومه المضاد الناجح في عملية الثغرة والذي مكنه من تنفيذ عبورٍ مضاد إلى غرب القناة مكّنه من حصار الجيش الثالث المصري، وأوقعوا عشرات القتلى والجرحى في صفوف قواته التي اقتحمت المدينة، ولم تفلحْ جرائمُه المعتادة ضد المدنيين في السويس، والقصفُ الجوي والمدفعي الوحشي في كسر إرادة المدينة الباسلة.
لم تقتصر أدوار البطولة في السويس على حاملي السلاح، فقد لعب العشرات من أطباء وممرضي السويس دوراً جوهرياً في هذا الانتصار الكبير، حيث صمدوا داخل المدينة حتى وقت إطلاق النار، وقاموا بواجبهم ليس فقط في علاج الجرحى من العسكريين والمدنيين بالإمكانات المحدودة تحت الحصار، إنما أيضاً في توفير الطعام للمصابين، وفي التخلص من الصرف الصحي داخل المستشفى يدوياً بعد أن قطع العدو إمدادات المياه بشكل تام عن المدينة.
وقد أشار الكاتب عمر طاهر في الفصل رقم 13 من كتابه «صنايعية مصر» الذي كرّسه لنماذج مميزة من الشخصيات المصرية مختلفة المشارب، إلى هذا الصمود العظيم من أطباء وممرضي وعاملي مستشفى السويس العام أثناء تلك المعركة الباسلة، لاسيما بعد أن شرع العدو المجرم كعادته في استهداف سيارات الإسعاف التي كانت تحاول إخلاء الجرحى إلى القاهرة، وقطع طريق القاهرة-السويس الصحراوي، الشريان الوحيد الذي يصل السويس بالوطن.
جدير بالذكر أن العدد الرسمي من شهداء الأطباء المصريين في حرب أكتوبر قد بلغ سبعة عشر شهيداً في كافة معاركها.
حضر الأطباء المصريون بقوة في ثورة يناير 2011، لاسيّما شباب الأطباء، والذي قاموا بأدوارٍ متعددة في آنٍ، فقد شاركوا في القلب من أبناء الشعب في كافة فصول وأحداث تلك الثورة، وحضروا بمشافيهم الميدانية في كل معترك، معرضين أرواحهم للخطر من أجل إنقاذ أرواح المصابين الثوار، وكان أبرزها مستشفى التحرير الميداني، والذي لم يكتفِ بعلاج المئات من الثوار المصريين في مواقف مختلفة، إنما ذهب بعضُ المتطوعين منه إلى بني غازي في شرق ليبيا في الشهر الأول من الثورة؛ حيث المعارك الضارية بين الثوار وقوات القذافي، وأقاموا مشفى ميدانياً في ميدان المحكمة ببني غازي.
كان من أبرز إسهامات الأطباء في أيام الثورة، مظاهرة الأطباء بالبالطو الأبيض يوم الخميس 10 فبراير 2011، والتي انطلقت من أمام بوابة كلية طب القصر العيني واتجهت إلى ميدان التحرير، وكانت تضم الآلاف من الأطباء الشباب، ولا أنسى أثناء تلك المظاهرة هتاف أحد المواطنين من شرفته بحماسةٍ فائضة لما رأى المظاهرة المهيبة: «الدكاترة خلّصوها... الدكاترة خلّصوها».
في هذا المقطع من أحد اللقاءات على قناة الجزيرة، يروي مسؤول المستشفى الميداني في ميدان التحرير إبان أسبوعيْ الاعتصام من 28 يناير إلى 11 فبراير عام 2011 العديد من قصص التضحية والجهد التي بذلها أطباء مصر ومسعفيها الذين تطوّعوا في الميدان آنذاك، والذين تجاوزوا الـ 500، وكان من بينهم أستاذة جامعية في تخصص الأشعة ظلت في الميدان طوال مدة الاعتصام كاملة، ولم تكتفِ بالجهد الطبي، إنما كانت تشارك في جهود الإعاشة وإعداد الطعام، وكانت تبيت على أرض الميدان أو على أسرة المستشفى الميداني.
وللأسف الشديد لا يوجَد لدينا إحصاء دقيق بعدد شهداء ومصابي الثورة وما تلاها من الأطباء، ولكن من المؤكد أنهم لن يقلوا عن العشرات بل قد يصلوا إلى المئات.
وفقاً لنقابة أطباء مصر، اعتمادا على البيانات الرسمية المصرية، فقد حصد وباء كوفيد-19 أرواح أكثر من 340 طبيباً خلال عامه الأول في مصر 2020، وهو ما يمثل أكثر من 4% من مجموع الشهداء المصريين في ذلك العام الخطير، واستُشهد العشرات من الأطباء في العاميْن التالييْن.
تعرّض الطبيب أحمد ماضي أبو غنيمة، المتخرج من طب الإسكندرية عام 2006، والذي عمل في مستشفى المعمورة للأمراض الصدرية، والذي خُصِّصَ إبان الوباء كمستشفى عزل لحالات الكوفيد-19، إلى إصابة خطيرة بالكوفيد-19 أدت إلى وضعه على جهاز التنفس الصناعي حتى وافته المنية في منتصف أغسطس عام 2020، ليلحق بزميلٍ له في نفس المستشفى هو د. محمد توتو والذي صعدت روحه إلى بارئها في الأول من أغسطس/آب نتيجة إصابة شديدة بالكوفيد-19 أيضاً. وقد ترك الراحل دكتور ماضي طفليْن صغيرين عمرهما تسع وخمس سنوات. قبل هذا بشهرين، توفيت الطبيبة إيمان إبراهيم في بني سويف بنفس الوباء الذي أصيبت به بالعدوى من إحدى المرضى، وكانت أُماً لثلاثة أطفال.
ليست الحرب الضروس الحالية هي المرة الأولى التي يسارع فيها الأطباء المصريون إلى أداء واجبهم في دعم إخوانهم الفلسطينيين في غزة ما أُتيحَت لهم الفرص لتحقيق ذلك، فقد ذاعت أثناء عدوان نوفمبر/تشرين الثاني 2012 ضد قطاع غزة، أنباء الوفد الواسع من الشخصيات العامة المصرية ومن بينهم العشرات من الأطباء والذين توجهوا من معبر رفح، إلى مجمع الشفاء الطبي في قلب مدينة غزة التي كانت تحت القصف.
ومنذ العام 2002، لعبت لجنة الإغاثة العاجلة باتحاد الأطباء العرب الذي تأسس عام 1962، أدواراً مهمة في عمليات الدعم والإغاثة في العديد من المناطق المنكوبة، ومنها غزة في حرب 2008، وفيضان ليبيا عام 2023... إلخ سواء بتقديم مساعدات عينية ولوجيستية طبية، أو بتوفير أطقم طبية متطوعة للعمل في تلك المناطق.
في هذا التقرير التالي لقناة الجزيرة، والذي يعود إلى أشهر عديدة قبل اندلاع حرب غزة الحالية 2023، يظهر وفد طبي مصري في مجمع الشفاء الطبي في غزة لإجراء بعض الجراحات الدقيقة والمعقدة، والتي تسبب الحصار الإسرائيلي الطويل في إضعاف قدرات القطاع الصحي في القطاع عن التعامل معها.
جديرٌ بالذكر أن الذي يظهر في المقطع متحدثاً ومرحباً بالوفد الطبي المصري من أطباء العظام، هو الشهيد البطل عدنان البرش، رئيس قسم العظام في مجمع الشفاء بغزة، والذي قُتل تحت التعذيب في سجون الاحتلال بعد اعتقاله أثناء اجتياح مجمع الشفاء.
وخلال الحرب الحالية 2023-2024، ذكر دكتور إبراهيم الزيات عضو مجلس نقابة أطباء مصر، أن قرابة 2000 من الأطباء المصريين تقدموا بطلباتٍ للنقابة من اجل التطوع للدخول إلى قطاع غزة لعلاج المصابين، مخاطرين بأن ينالهم ما نال نظرائهم الأطباء والممرضين والمسعفين في غزة، لكن لم تستطَع وزارة الصحة المصرية تلبية طلبات هؤلاء المتطوعين نتيجة تعنت الجانب الإسرائيلي ورفضه البات السماح بدخول تلك الكوادر الطبية إلى غزة، إذ أثبتت أيام تلك الحرب وفصولها الدامية، أن تدمير القطاع الطبي هو ركن ركين من خطة العدو في هذه الحرب.
وهناك نماذج أخرى من الجهود التطوعية المميزة لبعض الأطباء المصريين في مناطق النزاع، مثل طبيب العظام بيشوي نادي عزيز الذي انضم لمنظمة أطباء بلا حدود العالمية، وذهب مع أحد وفودها في مهمة طبية تطوعية إلى هايتي في أمريكا الوسطى في فترة مضطربة لعدة أشهر من عام 2017، حيث أسهم في علاج العشرات من حالات الكسور وإصابات الطلقات النارية.